بقلم: ماهر اللطيف
جمال إنسان حَسَنُ الخُلُق، متواضع، ناجح في عمله، متزوج من هاجر التي تعمل معه في الإعلام في هذه القناة التلفزيونية الوطنية منذ أكثر من عقد، تلازمه في كل مكان ليلًا ونهارًا. يحب ابنتيه: سوزان التي تبلغ إحدى عشرة سنة، وليان التي تبلغ تسع سنوات، يرعى منزله ويحميه على جميع الأصعدة بكل ما أوتي من خبرة، حنكة، وحتى قوة.
تعرف ذات يوم على نجاة، ذات العشرين عامًا، جميلة جدًا، فاتنة، ممشوقة القوام، أنيقة، دائمة الابتسامة، حين استدعاها إلى برنامجه الترفيهي المباشر "ضحك من الأعماق". كانت تعمل صانعة محتوى على إحدى منصات التواصل الاجتماعي. أُعجب بها وأُعجبت به، فتبادلا المعطيات الشخصية في الكواليس، بينما كانت هاجر تراجع دليل البرنامج وتعدله - فهي معدة البرنامج وصاحبة الفكرة -. اتفقا على التواصل والبقاء أصدقاء بعد هذا اللقاء.
رويدًا رويدًا، تطورت العلاقة بينهما، فترت علاقته بهاجر تدريجيًا، وأهمل منزله وعائلته يومًا بعد يوم، فقد بات يحب نجاة ولا يرى غيرها على البسيطة، بعد أن أصبح أعمى في حبها كما يُقال.
ورغم محاولات هاجر وعائلتها، وعائلة الزوج، وكل الزميلات والزملاء، والصديقات والأصدقاء، فإنهم جميعًا فشلوا في إرجاعه إلى الجادة وإصلاح ما أفسده في هذه الحقبة الوجيزة.
في الفترة نفسها، كانت نجاة تستدرج جمال، تتلاعب بمشاعره، تعده بالزواج في أقرب فرصة ما إن يتم طلاقه من هاجر. كانت تلتصق به خارجًا في كل مكان، تداعبه، تلامسه، تقبّله، وتداعب شعره برفق.
وما هي إلا أشهر قليلة حتى وقع الطلاق والفراق، فتمزقت العائلة وتفككت أواصرها. مرضت البنتان نفسيًا وعضويًا حتى كادتا تتركان مقاعد الدراسة. وهكذا دخلت هاجر في دوامة الضياع والتيه، تشك في كل شيء حتى في نفسها، وتحوّل حبها إلى كره للرجال وحقد شديد عليهم.
أما جمال، فقد ظل يهرول وراء نجاة بغية إتمام ما وعدته به إثر طلاقه، لكنها كانت تتملص وتتهرب، تخترع الذرائع والأكاذيب: كمرض أمها وعجزها عن علاجها الذي يتطلب كثيرًا من المال - فكان يمدها بما تحتاج دون تفكير -، أو اهتراء أثاث بيت أسرتها - فجدد لها كل الأثاث -، أو كثرة ديونها وديون أسرتها وغيرها، فظل يغدق عليها المال دون حساب على أمل الزواج بها لاحقًا.
أصبحت الظروف غير ملائمة لهاجر، إذ انخفضت مداخيلها ثم شحّت لاحقًا إثر الاستغناء عنها من طرف إدارة التلفزة لكثرة غياباتها غير المبررة، بينما امتنع جمال عن دفع أي مليم لأسرته طيلة هذه المدة. وتاه هو الآخر، إذ سحره حب نجاة وشغلته طلباتها ونزواتها التي لا تتوقف.
طلبت منه التخطيط للعيش في كندا وتأسيس أسرة في كيباك، وأمرته بأن يبحث لها عن عمل في انتظار تصفيته لوضعيته والالتحاق بها حيث سيتزوجان فورًا. اتصل جمال بمعارفه وأصدقائه هناك، واشترى عقد عمل بمبلغ مالي باهظ جدًا، لكنه لم يفكر في المال بقدر تفكيره في الوصول إلى نجاة.
ألحت عليه أن يمدها بكثير من المال لاقتناء مستلزمات الزواج في المهجر، فباع ما يملك دون تردد وأعطاها كل المال. جهّز لها جواز السفر، اقتنى لها تذكرة السفر، قام بكل صغيرة وكبيرة، وهو يُمنّي النفس بالسعادة والرخاء الأبديين بعد مدة قصيرة هناك.
سافرت نجاة، فتغير كل شيء. لم يستطع التواصل معها عبر أي وسيلة، إذ حظرته على جميع المنصات الاجتماعية وتنكرت له، رفضت التحدث إليه حتى عبر الوسطاء الذين زاروها هناك. فقد التحقت بحبيبها أخيرًا، لكنها وجدته متزوجًا ولم يعترف بها، فشقت طريقًا جديدًا بعيدًا عنه.
جُنّ جنون جمال؛ غضب، استشاط، لعن، سب، شتم... لكن لا حياة لمن تُنادي. فقد غدرت به جملة وتفصيلاً. ابتعد عن العمل، هجر الناس، وانغمس في عالم المخدرات عسى أن ينسى ما تعرض له من خيانة واحتيال.
بلغ هاجر الموضوع بتفاصيله وتطوراته، فتأسفت وندمت على عدم الاتصال به للوقوف إلى جانبه قبل أن يؤول أمره إلى هذا المآل. بحثت عنه طويلًا حتى عثرت عليه، وزارته وحيدة لترفع معنوياته، فوجدته مكسور الخاطر، جسدًا بلا روح، في حالة غير طبيعية:
اذكر الله يا "جو"، استغفره، ادعُه (كانت تناديه هكذا)، لا- عليك!!! في المال ولا في الأبدان كما نقول.
- (مطأطئ الرأس، بنبرة حزينة وصوت خافت) خسرت كل شيء، كل ما أملك، جريت وراء سراب دمرني.
- (مقاطعة وهي تمسك يديه) لا بأس! ستنهض من جديد وتنجح بسهولة مجددًا.
- (مقاطِعًا والدموع تنهمر بغزارة) سامحيني هجورة، لم أكن في المستوى. أبلغي سلامي لسوزان وليان، وقولي لهما إنّي أحبهما كثيرًا.
ثم سبح في الماضي فجأة، تذكر هاجر التي كانت تحبه إلى درجة الهيام، تخاف عليه خوف القطة على صغارها، ساعدته على النجاح وكنز الأموال، حافظت عليه وعلى أسرته، وكانت محاربة شرسة تعرض صدرها الأعزل لكل العواصف والمشاكل التي تمس به وبابنتيهما.
ما زال يتذكر كل صغيرة وكبيرة، بما فيها جحوده وتنكره لها، وعدم اعترافه بجميلها وطلاقها، عدم الإنفاق عليها أو عيادتها ولو مرة واحدة، ونسيانه للبنتين... في المقابل ها هي الآن الوحيدة التي تؤازره، تشجعه على النهوض مجددًا وتحفزه...
نهض جمال من مجلسه، قبّلها من جبينها، جرى بسرعة نحو النافذة المفتوحة، وألقى بنفسه من الطابق السابع الذي كان يقيم فيه. ارتج المبنى على وقع صوته صائحًا: "الوداع حبيبتي هاجر، أم بنتَيَّ، سامحيني فلم أكن زوجًا أو أبًا صالحًا". ارتطم بالأرض، وغرق في دمائه، فكانت نهايته التي اختارها، وخسر بها الدنيا والآخرة.
زادت الحادثة من آلام هاجر وبعثرت أوراقها، فاقمت حالتها وحالة ابنتيها الصحية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها. فضاعت كل أنثى لاحقًا وشقّت طريقًا غير قويم، بعد أن اسودّت الدنيا في أعينهن، وتنكر لهن القريب قبل البعيد، وأُوصدت في وجوههن كل الأبواب.
فبقيت هاجر تعاتب نفسها وهي دائمة التساؤل:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق