الخميس، 11 سبتمبر 2025

حب من ركام الموت ...بقلم الكاتب ماهر اللطيف


 حب من ركام الموت


بقلم: ماهر اللطيف


تسلّل فيلقٌ من القوات الخاصّة إلى البناية المهجورة ليلًا، والظلام يكتنف أرجاءها ويستوطن زواياها كأنّه كفنٌ أسود أُسدل على المكان. كانت تلك البناية غايتهم القصوى بعد ورود معلومة سرّية تُفيد أنّ زمرةً إرهابيّة قد آوت إلى سردابها تُعِدّ لعمليّة عدائية ضدّ الدولة ومؤسّساتها ما إن يُؤذن لها بالتنفيذ.


دخلوا الهوينى، خطًى محسوبة، أنفاسا مكتومة، يتلمّسون الجدران بباطن الأكفّ وقد غابت الأبصار عن الرؤية. لا كلام يخرج، ولا ضوء يُشعل، ولا هاتف يُسمع له خرير.

وإذ بهم يقطعون أشواطًا في الصمت والسكون، إذا بصوت سيف – قائد الفيلق – ينفجر فزعًا:

– "أنا فوق عبوة ناسفة… اثبتوا حيث أنتم، لا حركة، تنفّسوا عميقًا، توكّلوا على الله ولا تُقْدِموا على فعلٍ نكون فيه جميعًا إلى الهلاك."


انحدر صوته كالصاعقة، فإذا بالأضواء تُشعل، والأبواب تُفتح، ويخرج من الجوف رجالٌ ملثمون لا يُرى من محيّاهم إلا بريق العيون، مسلّحون بكلّ أداة موت. ارتجّ المكان بأصواتهم المتشفّية:


– "ها قد جاءنا الطاغوت بنفسه."


– "ضيوف أعزّاء، سنُحسن وفادتهم بالنار والحديد."


– "دعوني أفتك بهم الآن."


لكنّ قائدهم أوقفهم:

– "كفّوا… دعوهم يتذوّقون طعم المهانة."


انهمر سيلٌ من السباب والشتائم والاستهزاء، لكن عبد القادر -عون تابع للفيلق - لم يطق صبرًا، فردّ عليهم بما ملك من جرأة، فاخترقت جبينه خرطوشة ألقته على الأرض جثةً بلا حراك.


ارتجّت القلوب، ذُعر الرفاق، وحمدوا الله أنّ سيف لم يكن مكانه، وإلا كان موتهم أشدّ وأعجل.


جمد سيف فوق العبوة، وبدأ ذهنه ينقّب في مدارج الذكرى: أمّه المريضة بسرطان الدماغ، تُصارع الموت في كلّ يوم مائة مرّة؛ أبوه الواهن وقد استنزفه الداء وزاده الزهايمر تيهًا؛ أخوه سالم الطالب الذي لم يبرح الجامعة؛ أقاربه وأترابه… كيف سيتلقّون خبر مصرعه؟ كيف ستبقى أسرته بلا عائل وهو الذي نذر نفسه لهم وضحّى بالزواج وقد جاوز الأربعين؟


فجأة، غادر جلّ الإرهابيّين إلى السرداب بعد مكالمة عاجلة أجراها قائدهم، وبقي ثلاثة يحرسونهم بغلظة.

التفت سيف إلى رفاقه وهم يختنقون من الرعب، فهتف بهم خافتًا:


– "تنفّسوا بعمق… لا تتحركوا الآن."

ثم أردف:

– "وزّعوا أوزانكم، اجثوا على الركبة اليسرى ببطء، أسندوا الأكفّ إلى الأرض في رفق."


فعلوا ما أمرهم به، والعرق يتصبّب، والصدور تتلاحق أنفاسها. ثم أمرهم أن يسحبوا الحجارة الثقيلة الماثلة أمامهم ليضعوها مكان أقدامهم ساعة يقفزون هربًا.

وبينما قفز سيف وهاجر وإسماعيل، وتبعهم الرصاص إلى صدور الحراس فأرداهم قتلى في لمح البصر، انفجرت عبوة تحت قدمي علي فتناثرت أشلاؤه في جنبات المكان.


عاد الملثمون بالعشرات شاهري أسلحتهم، لكن العون الإلهي كان قد سبقهم؛ إذ اقتحمت قوات المدد المكان، فاشتعلت معركة ضروس انتهت بمصرع الإرهابيين جميعًا، واستشهاد إسماعيل، فيما جُرح سيف وهاجر وبعض من الأعوان.


كُتبت لهم الحياة بعدما كاد الموت يبتلعهم. ومن بين الركام، ولد شعور غريب بين سيف وهاجر، تقاسما نظراتٍ خرساء تنبض بودّ خفيّ، حتى أضحى زملاؤهم يُلقبونهم بـ "النصفين".


فهل يُقدّر لهذا الحبّ أن يكتمل زواجًا ووصالًا، أم أنّ الأقدار ستنصبّ عليهما من جديد بما يُبدّد ما تبقّى من أمل؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حب من ركام الموت ...بقلم الكاتب ماهر اللطيف

 حب من ركام الموت بقلم: ماهر اللطيف تسلّل فيلقٌ من القوات الخاصّة إلى البناية المهجورة ليلًا، والظلام يكتنف أرجاءها ويستوطن زواياها كأنّه كف...