مملكة فلافيو
بقلم: ماهر اللطيف
حيّ راقٍ جدًا في وسط العاصمة، يعج بالمتاجر الفاخرة، المطاعم، المقاهي، قاعات السينما، المؤسسات والشركات. حركة دائمة على مدار الساعة لا تعرف السكون مهما كان اليوم أو المناسبة. لذلك كان ملاذ الجميع من أهل البلد والسياح على حد سواء لما فيه من سحر ورونق وجمال لا يوجد في غيره.
لكن ما إن يسدل الليل ستاره وتغلق المحلات أبوابها، حتى ينقلب رأسًا على عقب ويتحول إلى "حي الموت". ينطلق فيه سوق المخدرات، الدعارة، تصريف العملات، توزيع الممنوعات والسلع المهربة كالأسلحة وغيرها. كل ذلك يزدهر تدريجيًا مع اسوداد الليل.
وكان "فلافيو" – اسمه الحقيقي فرج – رجل أعمال أربعيني، تلقى "أبجديات" الحرفة في أمريكا الجنوبية، سُجن هناك مرارًا وفرّ خلسة قبل أن تُصَفّيه العصابات. عاد إلى وطنه ليؤسس عمله، يجند النساء والرجال المناسبين في كل اختصاص، ويقود هذا الحراك بمهارة واقتدار.
رجاله كثر، يحرسون الحي حراسة مشددة. يتصدون لكل مخالف، وغالبًا ما يدفع حياته ثمنًا لتمرده. يراقبون كل عامل وعاملة، يدافعون عن "زملائهم وزميلاتهم" بشراسة لا تعرف الرحمة.
وبطبيعة الحال، بلغ الأمر إلى الهياكل المختصة بعد تكاثر الشكاوى، ازدياد القتلى، تنامي التجارة الممنوعة وازدهار السوق السوداء، تناقض المصالح وتشابكها، مما جعل الشرطة تسلّط الضوء على المسألة بجدية، تدرسها بعمق، وتبحث عن سبل لاجتثاث هذا الورم.
كان لا بد من تكليف عناصر أكفاء، شجعان، مجهولين بالنسبة لفلافيو وعصابته. فوقعت عليّ القرعة أنا وثلة من الزملاء، خريجين جدد من مدارس مختصة عالمية بأمريكا.
اطلعنا على الملف، درسناه جيدًا، استمعنا إلى تحاليل الخبراء، تلقينا الأوامر، استعددنا نفسيًا وجسديًا، تسلحنا، ارتدينا واقياتنا، تلونا ما تيسر من القرآن، توكلنا على الله، وامتطينا شاحنة مصفحة سوداء تتبعها سيارات مدججة بالسلاح والعتاد والرجال. كانت الساعة تشير إلى الثامنة ليلًا.
توقفنا في أحواز الحي، ترجّلنا أنا وستة من رفاقي بلباس مدني. تفرقنا حتى لا نثير الانتباه، ودخلنا بثقة ورغبة في اصطياد هؤلاء المجرمين. فيما بقيت الفرق الأخرى في حالة استعداد قصوى، تنتظر الإشارة للاقتحام. أما القائد فبقي في شاحنة المراقبة يتابع عبر الكاميرات المثبتة في ثيابنا.
ما إن اقتربنا، حتى تجمهرت حولنا بائعات الهوى. يعرضن أجسادهن، يتغزلن، يلمسن، يطلبن مالًا مقابل خدماتهن. اكتفينا بابتسامات وكلمات مقتضبة ورفضنا المساومات. تبعتهن أخريات وأخريات، كلهن بالشعارات نفسها.
واصلنا التقدم. أحد التجار همس لزميلي: "أتبحث عن الأبيض؟ أرخص الأثمان وأجود البضاعة عندي." تركه صديقي ومضى. آخر ناداه: "أقراص؟" فأومأ بالنفي. طفلة صغيرة وقفت أمام مدخل عمارة قالت لي: "لدي مسدس للبيع." سألتها عن السعر، فذكرت رقمًا مرتفعًا، فأجبتها أني سأعود لاحقًا.
كل تاجر يعرض بضاعته، يمجدها، يحاول فرضها. نناورهم أحيانًا، نناقش الأسعار والجودة، ونعدهم بالعودة بعد الاطلاع على السوق كاملًا.
فجأة دوّى صفير إنذار اخترق المكان. عمّت الفوضى، ذعر وهلع، فاقفر الحي في لحظة، لم يبق سوى بعض الزوار أمثالنا.
شعرت بشيء غليظ يُغرس في ظهري – كما حدث لزملائي – وصوت خشن يأمرني: "ضع يديك وراء رأسك، اجلس على ركبتيك." ركلة موجعة في فخذي جعلتني أصرخ ألمًا. ثم تقدم رجل أنيق الملبس، محاطا بمرافقيه ذوي العضلات، يضحك ساخرًا ويأمر باقتيادنا إلى مكان معزول.
لأول مرة في حياتي اجتاحني خوف حقيقي. شعرت بالعطش، الرغبة في التبول والتقيئ، والماضي كله كان يمر أمام عيني: المدرسة، الجامعة، التدريب بالخارج، أسرتي وأصدقائي. كنت أتصفح كتاب حياتي حتى صفعتني يد غليظة كادت تطيح بوعيي. أمر الأنيق بتفتيشنا تفتيشًا دقيقًا، وهناك بدأت نهايتنا.
ابتسم بخبث، أخذ ميكروفونًا وقال: "راهنتم على حصان خاسر. تعازينا لعائلات هؤلاء الحمير ." ثم صفعني مرات، وأشار لأحد رجاله ليتقدم. سألني:
هل تعرف هذا الشخص؟ -
(تمعنت مليًا) لا.-
(ركلني بقوة) أعد المحاولة أيها الغبي. -
لا أعرفه. -
بصق الرجل على وجهي وأشار بعلامة الموت. ثم التفت إلينا الأنيق وقال ساخرًا: "آه، نسيت أن أعرّفكم بنفسي. أنا سيدكم فلافيو. أريدكم أن تركعوا لي، تلحسوا حذائي، تستجدوا حياتكم." ثم أضاف وهو يبتسم بازدراء: "ذاك الشخص الذي لم تتعرف إليه هو علي ابن حيك. هو الذي كشفكم وعرّفنا بكم، كنا نراقبكم منذ أن وطأت أقدامكم مملكتنا.
غادر فلافيو بابتسامته الباردة، تاركًا أوامره تُنفّذ بدقة. عُصبت أعيننا، سُحِبنا كأكياس مهملة، وتناوبوا على ضربنا حتى غاب الوعي. أُلقينا في سرداب رطب مظلم، لا شمس تشرق ولا قمر يطل. كنا نُعذَّب ونُهان يوميًا، نعيش على جرعات عطش وجوع ومرض، بينما صرخاتنا تتلاشى في الفراغ.
مرّت الأيام ثقيلة حتى صارت سنوات. تضاعف عدد الأسرى، مات منّا من لم يحتمل، وتحوّل الباقون إلى هياكل تقاوم عبثًا. ثم ذات يوم انقطعت زيارات الحراس، خيّم الصمت، ولم نعد نسمع إلا وقع أنفاسنا المتقطعة.
في الخارج، كانت المعركة قد حُسمت، وسقطت "مملكة فلافيو" أخيرا. لكننا بقينا في ظلامنا، منسيّين تمامًا، نذبل ببطء حتى أكلتنا المجاعة والأمراض. هناك، على بعد خطوات من أسلحة الوطن وانتصاراته، متنا غرباء مجهولين… شهداء لم يُعترف بهم، وضحايا وطن لم يحاول أن يخلّصهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق