الخميس، 13 مارس 2025

هذا أنت ....بقلم الكاتب ابراهيم عثمان


 هذا أنت !.. وهذه انا !..  


هذا أنت ! .. وهذه أنا !.. وهذه أيام وليال تعانق بعضها بعضا دون  فرح أواستحياء .. ربما هي تفعل ذلك احتراما لمشاعرنا ، أو لأيهامنا بأنها ترسم خريطة لأحلامنا المسفوحة على قمم الجبال وأسفلت الشوارع الخاوية .

ماذا لو تسمح لي أن أناجيك في صمت أسطوري ، لكي تدرك على الأقل كم أني أعاني منذ سنوات من الشعور بالاحباط والتمزق والكآبة .

وحيدة أنا.. وهكذا سأظل وحيدة الى أن تهطل الأمطار صيفا فتبلل أحلامنا.

  ماذا لو تتركني ألوذ بهذه الشوارع التي تنام تحت حراسة أعمدة الكهرباء المنطفئة.. أظنها  ستعجبني كثيرا ، لأنها تمتحن روحي وتقيد جسدي .         ترى كيف ستبدو لي شوارع مدينتي السيبوسية في هذه اللحظات الغسقية ؟.. أني أراها بعينين مغمضتين ، وهي تتسلق  جبال ماونة لتحتل قممها الشامخة.. ثم تجلس هناك لتروي قصة غودو بلغتها .. وفي النهاية تقول : هل سيحضر الى هنا أم سيتركني أحتضر في شوق وحنين؟!.

وتذكرت احدى الأمثلة الشعبية التي اشتهر بها الشعب الفرنسي  " الأنتقام كصحن من الطعام لا يؤكل حتى يبرد ".

هذا المثل الفرنسي الذي قرأته في احدى روايات القرن الثامن عشر   كان يذكرني بوالدي. في تلك الصبيحة الشتوية الماطرة ، تسلل جنود الأحتلال وحاصروا حيهم .. كتفوه ثم ساقوه أمامهم الى احدى الثكنات .. ربطوه الى جذع شجرة الزيتون الموجودة في آخر الشارع وأضرموا فيها النار.

كان يصرخ وينادي بأعلى صوته : يا نار كوني بردا وسلاما على جثتي .

لم  يهتم به أحد . . بل ظل يصرخ ويصرخ الى أن تفحم جسده بالكامل. وفي الغد قمنا بجمع رفاته في كيس خيشي ، وقمنا بدفنه في نفس المكان حتى لا نثير انتباه السلطات الفرنسية.

دعني أذرف قليلا من الدموع أحتراما لهذه اللحظة الفارقة التي جمعتني بك ككاتب منبوذ ، لأعيد بعض التوازن الأخلاقي لهذه المهنة التي استبيحت من طرف بعض الغزاة الذين يفتقرون الى الموهبة والى الثقافة التي تنام على كنوز من المعارف والتجارب الأكثر التصاقا بانسانية الانسان وتراثه الفكري والابداعي.

هذا ما كنت أظنه قبل أن أراهن على أحلامي  المزعجة .

 ربما ستعانق أحلامي أحلامك في يوم ما قبل أن أسمح لها بأن  تذهب بعيدا، لتكتشف مساحات ومناخات أخرى أكثر شساعة وجمالا ، أو كأن تنتزع من شهرزاد أحلامها التي لا تتوقف أبدا عن الكلام الذي لا يباح الا لقلة قليلة جدا من الناس .

قلت لي وأنا أنصرف خوفا من أن يكتشفوا أمري:

- نحن أمة تعشق الرداءة وتنتجها بامتياز.

أمضيت ليال وليال افكر في هذه العبارة الواصفة لمجتمع فضل الرداءة عن الحداثة.

هذا أنت .. وهذه أنا !.. 

كم أنتظرت في تلك الليلة الصيفية الحارة التي دعيت فيها لتكرم من طرف مديرية السخافة .   في البداية غيروا موعد التكريم بتأخيره الى الأسبوع المقبل ، لكي لا يحضر الأصدقاء ومن يعرفونك ويحترمونك.

هكذا أنا.. وهكذا أنت .. وهكذا هم .. البشر بنزعتهم الشرانية لن يتوقفوا أبدا عن فعل المناكر !.. لا أريد أن أذهب بعيدا في استجلاء هذه الحقيقة المرة .. ربما ستكلفني وقتا طويلا ، قبل أن أستمر في الركض بين الجبال ومدن التيه التي اختزلتني الى نصف إمرأة غجرية تأتي من بعيد وتعود الى البعيد  قبل أن تكشف عن أسرارها ومواهبها العديدة.

هكذا كنت أفكر قبل أن يستبد  بي الحنين عند نقطة الصفر .. ربما سأظل أحن وأشتاق لأمس ولى أو أتطلع ككل الكائنات لغد آفضل.

 تلك حكاية أخرى عثرت عليها صدفة ، عندما كنت أقلب الصفحات الأولى من كتابك الفتوحات  الاسلامية.

لا أدري لماذا  اخترت الفتوحات الاسلامية تحديدا ، مع أنك كنت فاتحا بارعا في تسجيل الكثير من الأحداث التاريخية التي تعاقب عليها العقل البشري قديما وحديثا ، واختلف حولها نفس العقل ، مستعينا بما توفر له من كتابات دونها ابن كثير والطبري وابن خلدون وآخرون من أمثال أرنولد تونبي وشبنجلر.

لقد أعجبتني المقارنة التي أقمتها بين فرسان الأمس وفرسان اليوم .. قلت في مقدمة كتابك الثورة بين الماضي والحاضر  .. تفلس الثورات ، لكن  الانسان لا يفلس .كان اذا عزم على الغزو غزا وسبى وقتل . أما الفوتحات الاسلامية فهي شيئ آخر تماما رغم ما يقال عنها هنا وهناك.. فأنت عندما تقوم بفتح بلد ما ، إنما تقوم بذلك من أجل نشر هذا الدين الجديد الذي يسعى الى التوحيد بين اليهودي والمسيحي والبوذي وبقية الديانات الأخرى ، مراعيا في ذلك معيار التقوى لا غير.

كنت سأقول أن أول بحث صادفني هي تلك الأثلام التي خطها يراعك عن عقبة بن نافع الفهري ، والمعارك التي خاضها كقائد مع الجيوش الاسلامية شرقا وغربا..  يقال أنه لم يفشل أبدا ولم يخن ولم يتخل عنه رؤساؤه ولو مرة واحدة ، لكن هذه الأعترافات لم تشفع له عند البعض الاخر من الذين اتهموه بتعذيب سكان المغرب بطريقة جد بشعة .. كان يقص لهم أصابعهم ويسبي النساء والصبايا ، ثم يأخذهن الى قصور دمشق كجاريات .. تألمت كثيرا عندما قرأت ذلك .. ثم ماذا عن طارق بن زياد الذي خاطب جيوشه بواقعية صارمة قائلا :  " أيها الناس ، أين المفر؟ البحر من ورائكم والعدو أمامكم وليس لكم والله الا الصدق والصبر .."

الصدق والصبر ؟!..  هذا ما ينقصني منذ أن وجدتني أرسم عيون الرجال بالحبر الصيني .. هل تظن أن المنطق أو الفلسفات بامكانهما أن يستوعبا كل هذه التجارب المفقودة.

أه كم تبدو الحياة خاوية وكئيبة، والافلاس يتراكض في جنباتها المقفرة ليلا نهارا ، باحثا عن موتة تريح الانسان من العناء والغربة، قبل أن يجهض صبرها ويتفسخ صدقها.

كنت فارسي وكنت فرسك المحجلة بالأبيض والأسود .. فرسك التي تحسن الركض على طول امتداد العين دون أن تتوقف . 

هي لا تهزمها السباقات التي كانت تنظمها القبيلة لحسناواتها ، أو في تلك التي تتم تحت جنح الظلام .

قال لي يوما نذل من الفرسان :

- متى تترجلين لأركب ؟

وفي الليل سمعت أنه قتل ودفن ، فعرفت للتو أنك أنت من قتله أنتقاما لحبك ولفرسك التي لم تتعود على ركوب غيرك.

ربما سأكون امرأة مخطئة اذا تصورتك غبيا الى درجة الضحك على ذقنك.. أنا التي أهتديت الى عنوانك رغم حلكة الظلام الدامس ورغم العسس المضروب من حولك.

كنت أتوارى بين الأشجار وأعمدة الكهرباء والحافلات والسيارات ، لأصل سالمة الى اقامتك الجبرية ، لعلني أتمكن من تحريرك من الجحيم الذي تصلى فيه.

لقد فتشت جيوبك دون أن أخاف من فحيح الأفاعي السامة ، أو أعير اهتماما  لتلك الأقاويل التي تنعتك بالفسق والالحاد .. وقبل أن أشرع في تفتيش أوراقك وكتبك لعلني أعثر على أثر يبدد مخاوفي ، ويدفع بي أن أغامر صوب بحار أشواقك وأسبح بين شواطئك وأغوص في رمالك  الذهبية ، لعلني أعثر على بقايا جسدك المبعثرة هنا وهناك.. استوقفني صديق ممن قال فيهم المتنبي :

اذا أنت أكرمت الكريم ملكته     وان أنت أكرمت اللئيم تمردا

وراح يحدثني عنك دون أن أطلب منه ذلك.

هذا ما كنت أتمناه قبل أن تراني في ذلك اليوم الصيفي الحار.. كنت أرتدي فستانا أبيض مشجرا بأغصان الزيتون جعلني أبدو صغيرة مقارنة بعمري الحقيقي ، وأنا أندس بين المدعوات الى حفل تكريم أحد الأسماء التي شوهت المشهد الثقافي باستعجالها الشهرة ونفاق من كرموها.

لن أخفي عنك شيئا هذه المرة. لقد كانت تعاليقك الموجزة أشبه بتلك الفتوحات التي خاضها رجال أشداء ،وهم يفتحون البلدان والأمصار تحت راية الاسلام.

هذا أنت ! .. وهذه أنا !..  

يومها أيها الفارس الصنديد أحسستك تجوب شوارع وأزقة وممرات عقلي وتفتحها من جديد .. كنت تعمل بخبث انساني ، لكي تهيئ مشاعري وتوقظها من سباتها العميق.. جعلتني أرقص طربا كلما أحسست بيدك تمتد نحوي، وتجذبني بعيدا ، لأكتشف نفسي من جديد ، وهي تغرق في سهول وحقول أرضك الممتدة بين الجبال والأودية والسهول والمدن والبحار .

كنت أسأل نفسي كلما أوغلت في أحلامك المتوهجة  وجمال روحك المتوثبة وأشواقك الملتهبة المنسوجة من عوسج التصوف وأشواك الفلسفة :

- أين تكون عندما تجتاحني ذكريات الماضي والحنين والبكاء ؟

آه ما أجمل أن يحس الانسان بسنوات الشباب عندما كان يكذب لكي يحب ، ويحب لكي يقال عنه أنه ذلك  العاشق الذي جاب الصحاري والبراري ووقف راكعا أمام الأمواج والأشجار.

دعني أقول لك بعيدا عن أقوال الفلسفة والفلاسفة .. أنا امرأة بسيطة  نزلت من السماء الى الأرض ، لتشرب من مائها ومزنها وتستنشق هواءها وتقطف ثمارها .. ولست هنا لأدعي أنني أفهم في فن التأويل والمؤول ، ولا في فنون الرقص والطرب ، أو في فن التمثيل والتنجيم والتجميل.

فقط أنا امرأة بسيطة بساطة هذا الكون المترامي الأطراف .. جسدي خلق من ثماره وبحاره وثراه.

عندما تشرق الشمس أخرج الى الحقول ، وأستلقي على ظهري لألتقط أشعة الشمس وأمسح جبيني بنسيم الأضاحي وهبوب الرياح القادمة من بعيد. . وعند منتصف النهار أتسلى بين الأمواج وأظل أسبح كحيتان القرش الى أن تغيب الشمس في الأفق.

وقبل أن أعود مساء الى المدينة ، أتزين بما جلبت من الحقول من ورود وأزهار ، ثم أخرج لأتجول في الشوارع ليلا، وأجلس في المقاهي والساحات العمومية ، لأكيد رجالها وأزرع الغيرة في قلوب نسائها.. أسرق من جمال الطبيعة ما أجعل منه زينة لجسدي وشفتي وعيني السوداوين ، لكي أتحرش ببعض الكائنات الكرتونية.

كنت أفعل ذلك كل مساء نكاية في بعض الرجال الذين قالوا بأن المرأة هي سبب  المأسي والمصائب ، وكأن الله خلقها لتكون كذلك فقط ، وتناسوا أنها مخلوق يفيض شهوة وجمالا.واشواقا لا تنضب أبدا.


بقلم: ابراهيم عثمان

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تلك غزة ...بقلم الشاعر عدنان درهم

 تلك غزة ..عزة وكرامة.. إرادة صلبة قوية ترقى إلى العلياء   تحلق عالية..لا ترضى بغير النصر أو الشهادة  مع الحق تمضي واثقة  رجالها أحرار كالرو...