الاثنين، 1 سبتمبر 2025

جبر الخواطر.....بقلم الكاتب ماهر اللطيف


 جبر الخواطر 


بقلم: ماهر اللطيف


كنت أعود قبر جدي باستمرار كلما ضاقت بي الدنيا واسودت في وجهي، أشكوه همي، أقر له بهوني وضعفي، أصف له عمق جراحي وآلامي، أبكي بحرقة بصوت عال، انتظر جوابه الذي لم ولن يلج قوقعة أذني أبدا، ومع ذلك كنت أصر على هذا الصنيع.


وكنت أيضا، أجلس طويلا في هذه المقبرة المقفرة من الأحياء، استمد قوتي، شجاعتي،استرجع توازني وثقتي في نفسي كلما ذكرت الله، تلوت القرآن، استغفرت، حوقلت،سبحت، تذكرت حكاية من حكايات جدي الذي كان يتحفنا بها بصفة شبه يومية، حكايات كانت مستمدة من الواقع كما كان يؤكد لنا، ذات معنى ودروس مستخلصة تصلح لكل زمان ومكان.


شاءت الصدف والأقدار، أو لنقل نتيجة لسوء تصرفي، تهوري،اندفاعي المفرط، تشاجرت مع زوجتي، أم أطفالي التي تقاسمني الحلو والمر منذ عشرات السنين، شتمتها، صفعتها على وجهها بقوة، وصفتها بصفات نابية لا تليق بها، أهنتها أمام أبنائي الذين حاولوا منعي فنفرتهم وغضبت عليهم غضبا شديدا، دفعتهم،أجبرتهم على التنحي من أمامي وعدم التدخل.


وكان مصدر الشجار تافها إلى أبعد الحدود في الحقيقة، فقد طهت الطعام، ونسيت أن تضع الملح فيه كالعادة، فهجت ومجت، وفعلت ما فعلت بتهور وجنون مفرط، ولم أسألها حتى عن أحوالها وسبب هذا النسيان ودوافعه، فقد تكون مريضة، مرهقة،شاردة الذهن، تفكر في أمر ما شغلها ونال منها...


المهم، لم أشعر بنفسي إلا وأنا أهرول خارج المنزل بحثا عن هواء نقي يطهر صدري من دخان غضبي، اتجهت صوب المقبرة، أطلقت السلام على جميع الموتى، قرأت الفاتحة أمام قبر جدي، قمت بجميع الشعائر التي أشرت إليها سلفا قبل أن أقص عليه ما حدث هذا اليوم، لكنه لم يرد - وهذا أمر طبيعي -، تسمرت في مكاني ودموع الندم، الحسرة،الشعور بالذنب تغسل وجهي وجزء من ملابسي وكأنها تطهرني من ذنوبي التي كثرت في المدة الأخيرة.


فجأة، تذكرت حكاية من حكايات جدي الشهيرة حين قال لي ولبقية إخوتي ذات ليلة " مرضت مرضا شديدا ألم بي على مستوى رئتي اليسرى من جرّاءِ التدخين المفرط، فاضطررت إلى البقاء في قسم الأمراض الصدرية مدة من الزمن لاستكمال الدواء هناك.


أدخلوني إلى غرفة صغيرة في آخر جناح هذا القسم وقالوا لي هذا فراشك الذي ستقبع فيه ولن تتحرك منه مهما كانت الأسباب، اضغط على هذا الزر يأتيك أحدنا ليرعاك ويقضي لك حاجتك، وكان معي مريض آخر يجلس على فراش مجاور قبالة نافذة تطل على منظر ما أجهله حينها، فكان دائم الشرود، الذهول،التمتع بما يراه وهو يقول باستمرار 'سبحان الله، ما شاء الله'، لكنه لم يعرني أي اهتمام ولم يخاطبني قط وكأنني غير موجود.


وبما أني لا أطيق صبرا، فقد حمحمت عاليا، أشرت له بيدي ليلتفت لي، قلت 'يا محمد'، لكنه تجاهلني مما جعلني أخاطبه بصوت مرتفع سمعه جل المرضى والممرضين:


عفوا أخي، السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته (تجاهلني) يا من تنظر إلى النافذة


(بعد محاولات عدة، ولم يلتفت إلي حتى وهو يخاطبني) هل تكلمني سيدي؟


- (مصدوما) نعم، ألم تلحظ مقدمي ومجاورتك؟


- (بثقة في النفس وبرود) لا والله، المعذرة،فقد كنت منشغلا بالتمتع بهذه المناظر الطبيعية الخلابة، هل تريد أن أصفها لك بما أنه يمنع عليك التحرك من مكانك؟


- (بصوت خافت) بلى


 فقال إن نافذته تطل على أرض خضراء شاسعة، تحيط بها أشجار الصنوبر من كل جانب، بها بعض الأشجار المثمرة على غرار الزيتون، التفاح،الإجاص، الخوخ وغيرها، تشقها جداول المياه وخريرها الذي يُذيب الأسماع ويُذهب العقول، تحلق في سمائها الطيور شادية أحلى النغمات. يوجد في وسطها مسبح كبير يسبح فيه صبية بكل شراهة وعزم...


وواصل الوصف وأنا أتلهف لرؤية هذا المشهد الجميل الذي جعله يحتقرني من أجله.وكان كلما سألته، أعاد نفس الأوصاف وأضاف بعض المشاهد بعد كسوها بمسحة من الجمال والروعة التي جعلتنا نذكر الله كثيرا، نحمده ونشكره، نقع له ساجدين على هذه النعمة.


بقينا كذلك ثلاثة أيام، حتى استفقت في اليوم الرابع قبيل الفجر بقليل على صدى حركة غير عادية في البيت، أين تجمهر أصحاب الميدعات البيضاء وكثر ضجيجهم، حيرتهم،حركتهم، متبوعة بقول 'إنا لله وإنا إليه راجعون '، فقد توفي مرافقي، قضى عليه سرطان الرئة وجعله يدفع فاتورة التدخين حياته.


طلبت من ممرضة بلطف تغيير مكاني واتخاذ فراش المرحوم مُتّكأً لي، فلم تمانع وقامت بما بجب القيام به بمعية بعض زملائها مشكورين جميعا، بارك الله فيهم.


 كم كانت فرحتي كبيرة حين لمس جسدي هذا الفراش، اعتدلت في جلستي، هيأت نفسي للتمتع بالطبيعة الخلابة وبراءة الأطفال، ألقيت نظرة، فثانية وثالثة، صُدمت،شهقت عاليا، صحت، ناديت الممرضة التي أسرعت لمساعدتي، فأعلمتها بالقصة من أولها إلى آخرها لذلك طلبت المكوث هنا، لكنني لم أجد غير حائط اسمنتي تطل عليه هذه النافذة.


ابتسمت، مسكتني من يدي برقة ثم قالت "كان الشيخ علي أعمى يا أبتاه، كان يتحدى ألمه وأوجاعه، صراعه مع المرض الخبيث بالنظر من هذه النافذة وتصور المشاهد التي حُرم منها والتي يريد أن يراها، فكان يبعث الأمل لمن يقطن معه، يرسل له موجات إيجابية، يجبر بخاطره حتى ينسى ما ألم به من وهن، وكان يحارب الموت في صمت، يبعث البسمة في وجوه السامعين ويبكي داخليا، يخفي عنهم مشاهد الموت ويبث فيهم الرغبة في الحياة، يُنمي فيهم تعظيم الله وتقوية إيمانهم..."


فجأة، استفقت من غفوتي، بسملت،كفكفت دموعي، غادرت المكان بسرعة، اقتنيت هدايا كثيرة ومتنوعة، ورودا،أكلات، عدت جريا إلى منزلي، وجدت شريكة حياتي حزينة متوسطة أولادها الذي كانوا يخففون

عنها مصائب أفعالي وآثارها العميقة التي لا أظنها تلتحم يوما ما، ضممتها إلي، قبلتها من جبينها، طلبت الصفح، أغرقتها بالهدايا هي وأبنائي، وعدتها بأن أتغير ما دمت فوق الأرض.


فهل ستغفر لي ذنوبي وتصفح عني؟ هل ستطوي الصفحة ونلطخ أخرى بالسعادة والهناء؟ هل سأتغير فعلا وأحافظ على توازني، أم هي مجرد ردة فعل، ثم "عادت ريمة إلى عادتها القديمة"؟ ربما الإصلاح يبدأ بالجبر، الاعتراف بالذنب، الاستعداد للتغيير والتحسين كما كان جدي دائما يلقننا ويحثنا على ذلك.فجبر الخواطر لا يحيي الموتى، بل يحيي القلوب والضمائر ويقربها من الواحد الأحد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق